خاص شفقنا- -تتنوع قيم الحياة التي بوجودها يشعر المرء بالطمأنينة والراحة، ويدرك بحسن استغلالها و تطبيقها مراتب أعلى من مراتب الإرتقاء بين الناس في هذه الدنيا. ولعل الصبر من أبرز القيم التي من شأنها تهذيب النفوس و ترويضها و من خلالها يستطيع الإنسان أن يجد لنفسه ساحة مقدسة يسرح فيها في التأمل و التفكير، ليجد سبيل الخلاص الأنسب و حتما سيجدها بالقرب من الله عز وجل، فلذلك نجد ان الإمام الكاظم عليه السلام قد جسد في حياته هذه القيمة المعنوية السامية و كان مدرسة لتعليم معنى أن نمتلك الإرادة لتحمل الإبتلاءات و ننتظر الفرج الحتمي الذي سيمن الله به علينا.
وفي هذا السياق يقول” المفتي في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ يوسف رغدا في حديث خاص لشفقنا “ان الصبر تجلى عند الإمام سلام الله عليه و من هنا سمي بالكاظم أي كاظم الغيظ” ويشير إلى أن السجن كان بالنسبة للإمام مدرسة للعبادة و الطاعة و الصبر لبلوغ مدارك الكمال و التمسك بالإرادة الصلبة”، ويشير إلى أن الإمام عليه السلام واجه السجن بروح ملؤها الصبر والاصرار والتحدي، فلم يهن و لم يلن بل بقي في موقع القوة والصلابة والعنفوان، و لم يخطر بباله ان يظهر الخضوع الى السلطان الجائر كي يستدر عطفه و شفقته، ليعلم الامة بصبره دروسا في المواجهة وعدم الرضوخ الى الظالم. لينجح الامام بذلك بتثبيت ارادة الامة”.
بالإضافة إلى هذا نرى ان الإمام الكاظم(ع) قد اعتبر السجن ابتلاء ينقضي مثلما ينقضي الرخاء و هذا الوصف نقشه الإمام صلوات الله عليه في رسالته التي بعثها من السجن إلى هارون لما طال سجنه و التي قال له فيها ” إنه لن ينقضي عنّي يوم من البلاء إلّا انقضى عنك معه يوم من الرخاء حتّى نفضي جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء يخسر فيه المجرمون”.
جميعنا يدرك ان الدنيا دار متغيرة الأحوال ، فسرور يعقبه الحزن ويسر يخلفه العسر وسقم تتبعه العافية، واجتماع تعقبه الفرقة في الدنيا أو إلى الدار الآخرة، هكذا أرادها الله ابتلاءً لعباده واختبارًا، وهو “الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ”، من هنا يتحدث المفتي رغدا عن آثار الصبر على حياة الإنسان معتبرا أنها “هي أصلا تحتاج لوجود هذه القيمة فيها”، مؤكدا أن من أهم ” اثار الصبر الذي جسده الإمام الكاظم ع يتمثل الان بالمسيرات المليونية نحو الكاظمية في كل مناسبة وذكرى الامام الكاظم وائمة آل البيت عليهم السلام، والتي هي عبارة عن تهيئة للامة فكريا و ثقافيا و دينيا وتمثل تعاليم الامام ونهجه.”
وتابع المفتي رغدا “على الإنسان أن يؤمن بأن هناك امر إلهي من خلال هذا البلاء الذي هو فيه و عليه أن يسلم أمره إلى الله ليزيد من ارادته و تصميمه على تخطي هذا الابتلاء، فالله وعد الصابرين بالأجر الكبير و المغفرة ورفع المنزلة ويكفي قول الله تعالى “ان الله مع الصابرين” ليدرك حجم التسديد والحفظ والقدرة الإلهية التي يمكن أن يمده الله بها”.
واضاف “الصبر يوصل الانسان للعيش في ساحة الله بثقة و اطمئنان “قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا”.
علاوة على ذلك، من الواجب علينا كمجتمع يفتخر بالولاء لأهل البيت عليهم السلام أن نقتدي بهم و نجسد تعاليمهم و اخلاقهم و صفاتهم بتكريسها في كل لحظة من لحظات حياتنا وفي سلوكياتنا و أعمالنا. والله عز وجل دعانا إلى الصبر في حياتنا فيقول تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا).
وانطلاقا من هنا، يرى المفتي رغدا أنه “وللاسف الشديد نجد في مجتمعاتنا ان صفة الصبر و كظم الغيظ اصبحت قليلة بين الناس، ولم يستفيدوا من هذه المعارف القرآنية والاسلامية، فأكثرهم اليوم لا يستطيعوا ان يتحلوا بالصبر في عملهم و محنهم و عند الابتلاءات و الامراض والجزع ، بل يضعفون”، مشيرا إلى ان سبب ذلك هو “البعد عن الله وعدم الايمان الصحيح لان الانسان الصابر لا يصل الى هذه المرحلة لأنه يمتلك الثقة التامة بالله ويلجأ إليه و يدعوه بمثل هذا الدعاء “لعل الذي ابطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الامور” فيجد جواب الخالق “وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ “.
إذن، المؤمن الذي لا يعلم عواقب الأمور، ولم يكشف له الغطاء ، ولا يعلم ما الذي أعده الله عز وجل لعباده المؤمنين، لماذا يستعجل قضاء الحوائج ؟! ولماذا لا يتحلى بالصبر، فشهادة الإمام الكاظم أصدق دليل على ثقته بالله و صبره على قضائه، لأنه يعلم بأن الله عز وجل سوف يعوضه بما لا يخطر على بال أحد ، وهو الذي كان يعرف أيضا أن الرطب التي قدمها الرشيد له مسمومة، فتحمل الإمام العظيم في تلك الفترة الرهيبة ما لا يتحمله أي إنسان، من تكبيل بالقيود وأذى مرهق، وآلام السم التي قطعت أوصاله وأذابت قلبه، والحزن الشديد الذي أثر فيه تأثيراً عميقاً لانتهاك حرمته، وغربته عن أهله.
اذا الصبر هو الزاد، والقوة والعتاد، يحتَاجُهُ المَرِيضُ في شَكوَاهُ، والمُبتَلى في بَلوَاهُ، وَالدَّاعِيَ إلى الله في دعوته، والمرأة في بيتها، والأب في أسرته، والمعلم في مدرسته، وطَالِبُ العِلمِ في دراسته، والموظف في إدارته، والتاجر في تجارته، والعامل في خدمته…
من هنا الا يستحق هذا تحمل مسؤولية ولائنا لأئمة كرمهم الله وجعلهم اطهر و أصفى اهل الأرض فنكون زينا لهم في دنيانا لنكسب آخرتنا؟
مهدي سعادي