شفقنا-خاص- قامت السياسة الامريكية في اوروبا منذ انهيار الاتحاد السوفيتي في بداية تسعينيات القرن الماضي ، على قاعدة الترويج ل”الخطر الروسي” ، بهدف وأد أي جهد يعمل على تشكيل تكتل اوروبي يضم كل بلدان القارة الاوروبية ومن ضمنها روسيا ، على اسس جغرافية واقتصادية وامنية واجتماعية ، يمكن ان يزاحم المصالح الامريكية في اوروبا والعالم.
اما في الشرق الاوسط ، فقامت السياسة الامريكية ومنذ انتصار الثورة الاسلامية في ايران عام 1979 ، على قاعدة الترويج ل”الخطر الايراني” ، بهدف وأد أي جهد يعمل على تشكيل تكتل عربي اسلامي ، على اسس جغرافية واقتصادية وامنية واجتماعية ، تحول دون نهب امريكا لثروات المنطقة ، ودون زرع الشقاق بين بلدانها لمصلحة “اسرائيل”.
رغم نجاح السياسة الامريكية على مدى العقود الماضية في اوروبا والشرق الاوسط ، الا ان هذه السياسة بدات تشهد نوعا من التشكيك ، وخاصة في اوروبا ، بعد صعود نجم دونالد ترامب في امريكا ، وشروعه بتنفيذ شعار “امريكا اولا” بطريقة فجة و وقحة.
الاوروبيون يعيشون الان تحت وقع صدمة القرارات المتلاحقة التي يتخذها ترامب ضدهم وضد مصالحهم ، فلا يستفيقون من صدمة حتى يتلقون اخرى ، فبدأ من الانسحاب الامريكي من معاهدة باريس للمناخ و نقل السفارة الامريكية الى القدس ، ومرورا بالانسحاب من الاتفاق النووي وتهديدات الشركات الاوروبية العاملة في ايران بفرض عقوبات قاسية عليها ، وانتهاء بفرض ضرائب وصلت الى 25 بالمائة على صادرات الصلب والالمنيوم والسيارات الاوروبية الى امريكا.
هذه الاجراءات وخاصة الاقتصادية منها ، تعتبر بمثابة اعلان حرب تجارية من قبل امريكا على الدول الاوروبية وفي مقدمتها المانيا وفرنسا وبريطانيا ، وهي دول ليس كباقي الدول الاخرى مثل روسيا او الصين ، فهي تعتبر حلفاء لامريكا ، وتربطها معها معاهدات واتفاقيات سياسية وامنية وعسكرية وثيقة ، واستهدافها بهذا الشكل ، ينذر بانهيار منظومة العلاقات التي ربطت امريكا باوروبا منذ عام 1945.
اصوات انهيار هذه العلاقة بدات تُسمع عبر التصريحات القوية لقادة اوروبا ، الذين اعتبروا العالم يشهد تطورات تشبه الى حد بعيد ما شهده في ثلاثينيات القرن الماضي عند صعود النازية في اوروبا ، وطالبوا بتشكيل نظام امني وعسكري خاص يمكن ان يحافظ وبشكل مستقبل على امن واستقرار البلدان الاوروبية دون الاستعانة بامريكا.
التشكيك بالخطر الروسي على اوروبا ، بدا يتغلغل الى دوائر صنع القرار في اوروبا ، وكان الرئيس الفرنسي ماكرون واضحا جدا عندما اعتبر روسيا دولة اوروبية ، الامر الذي يحملها ذات المسؤولية التي تتحملها الدول الاوروبية الاخرى ازاء امن واستقرار ومصالح القارة الاوروبية بشكل عام.
بعض الاوروبيين يشعرون ان ترامب يعمل على اذلالهم لرفضهم الانصياع لسياسته فيما يخص القضية الفلسطينية ، وما يعرف بصفقة القرن ، وكذلك من الاتفاق النووي الايراني ، من خلال فرض الضرائب على صادراتهم وتهديده لشركاتهم بالعقوبات الاقتصادية . ولكن مهما كانت الاسباب الا ان اوروبا بدات في صياغة سياسة جديدة على صعيدي علاقاتها مع روسيا وامريكا ، يمكن ان تؤثر على موازين العلاقات الدولية بشكل عام.
في المقابل لم يتبلور بعد التكشيك العربي ب”الخطر الايراني” ، بالشكل الذي ظهر فيه في اوروبا ازاء “الخطر الروسي” ، بسبب عوامل عديدة ومتشعبة وفي مقدمتها ضعف الارادة السياسية لبعض البلدان العربية وخاصة الخليجية ، وارتفاع منسوب الخطاب الطائفي ، والتضليل الذي تمارسه الامبراطوريات الاعلامية الممولة من الدول العربية الثرية.
رغم كل ذلك بدأت تُسمع اصوات خافتة ، وهي تعترض على سياسة الحلب التي يمارسها ترامب مع الدول الخليجية الغنية ، والتي وصلت الى حد الاذلال والمهانة ، تحت ذريعة مواجهة “الخطر الايراني” . فهذه الاصوات بدأت تهمس بريبة عن تحول ترامب الى شريك رئيسي في خزائن الدول الخليجية ، التي دفعت له ما يقارب ترليون دولار منذ وصوله الى البيت الابيض ، تحت ذريعة مواجهة ل”البعبع ” الايراني ، من دون ان تُشاهد هذه الدول بصيص من ضوء في نهاية نفق جشع ترامب.
اذا كانت دول عظمى بحجم المانيا وفرنسا وبريطانيا وحتى كندا والمكسيك ، تشكو من معاملة ترامب المذلة معها ، فإن بعض الدول العربية وخاصة الخليجية مع ترامب في حال لن تُحسد عليها هذه الدول بالمرة.
بعد حديث ترامب المهين حول عدم قدرة الدول الخليجية للبقاء اسبوعين دون حماية امريكا ، وبعد حديثه الاكثر اهانة حول ضرورة ان تتقاسم هذه الدول خزائنها مع امريكا ، وبعد الصور التي تم تناقلها عن لقاء ترامب بولي العهد السعودي محمد بن سلمان ، وهو يفرض عليه ما يشتري من الاسلحة الامريكية ، بات ضروريا ان يُشكك ، اصحاب العقول الراجحة ، بحقيقة وجود “البعبع” الايراني.
انتهى