شفقنا- هل انهيار عملة دولة ما يعني بالضرورة انهيار اقتصاد هذه الدولة؟ ما العلاقة بين قوة اقتصاد الدولة وعملتها؟ هل يمكن أن يكون هناك عملة محلية قوية لاقتصاد ضعيف؟ هل يكشف سعر صرف العملة عن القوة الحقيقية لاقتصاد الدول؟
لا شك أن أحد هذه الأسئلة خطر ببالك خلال الآونة الأخيرة، فمنطقة الشرق الأوسط عاشت خلال السنوات الماضية عدة أزمات اقتصادية كان البطل الرئيسي فيها هي العملات المحلية، ولعل الأزمة التركية التي اشتعلت خلال الأيام الماضية أحد أبرز تلك الأزمات، إذ شهدت الليرة التركية موجة عنيفة من التراجعات، جعلتها تفقد خلال تعاملات الجمعة 10 أغسطس (آب) نحو 17%، وبعيدًا عن سرد تفاصل الأزمة الحالية، لنتحدث حول مضمون الأسئلة السابقة ونحاول البحث عن إجابات واضحة.
هل انهار اقتصاد تركيا فعلًا؟
ومع انهيار الليرة تحدث البعض أن الاقتصاد التركي يتجه إلى نفس المسار –الانهيار- في إشارة إلى أن الليرة مرآة لواقع الاقتصاد التركي، ولكن هذا التقدير خاطئ لعدة اعتبارات سواء من جانب أسباب التراجع الأساسية، أو من جانب طبيعة العلاقة بين قيمة العملة وحالة الاقتصاد، فبالنسبة لأسباب التراجع فلا يمكن القول أبدًا أن الانهيار الحاد الذي حدث مع الليرة كان ناتجًا عن خلل اقتصادي دفع العملة لهذه الموجة من التراجعات، كأن تعلن الدولة مثلا تعثرها في سداد ديونها، أو تحدث موجة من التخارج من السوق التركي، أو أي حدث اقتصادي ضخم، لكن كل هذه الأمور لم تحدث.
إذ إن الأسباب التي قادت الليرة للهبوط ليست أسباب اقتصادية بحتة، بل كانت إما سياسية أو أمنية، وإما متعلقة بمخاوف بشأن تدخل الحكومة في السياسة النقدية لخفض سعر الفائدة، وبما أن سوق العملات من أكثر الأسواق حساسية للأوضاع السياسية، نجد الليرة تتحرك صعودًا مع الاستقرار السياسي، وهبوطًا في ظل وجود أي توترات سياسية.
هذا بالإضافة إلى سبب آخر رئيسي وهو صراع الرئيس التركي مع البنك المركزي التركي حول سعر الفائدة، وهو الصراع الدائر منذ أكثر من ثلاث سنوات. وكثيرًا ما كشف أردوغان عن رغبة في خفض تكلفة الاقتراض لتعزيز الاستثمار وتحفيز الاقتصاد بالإضافة إلى تمكين الشركات التركية المديونة من سداد ديونها بتكلفة أقل، وهذه الرغبة تثير قلق المستثمرين في ظل ارتفاع التضخم.
هذا فيما يخص الأسباب، لكن ماذا عن طبيعة العلاقة بين قيمة العملة وحالة الاقتصاد؟
تعتمد تركيا على تقييم العملة من خلال طريقة التعويم الحر، وهي الطريقة التي تعتمد على تحرير سعر العملة وتركها للسوق وقوى العرض والطلب، أي أن تدخل الدولة في سعر الصرف غير موجود، وهذا النوع من التقييم جيد اقتصاديًا ويعطي صورة حقيقة عن الأوضاع الاقتصادية، ولكن في حال حدثت موجة من المضاربات على العملة لأي أسباب غير اقتصادية تتأثر العملة بقوة من هذه المضاربات وهو ما حدث تحديدًا مع تركيا مؤخرًا في ظل وجود المشاكل التي أشرنا إليها، وليس شرطًا أن تكون هذه المضاربات ذات مرجعية سياسية ولكن قد يكون المحرك الأساسي لها هو الخوف من الأوضاع بشكل عام.
وبحسب خبراء الاقتصاد بمعهد التمويل الدولي فإن الليرة التركية انخفضت مؤخرًا عن قيمتها العادلة، متوقعين أن ترتفع على مدار العام إلى العامين القادمين، وهو ما يوضح أن التراجعات الماضية لم تكن تستند على أسس اقتصادية.
لكن هل الحالة التركية -من حيث إن قيمة العملة منفصلة عن واقع الاقتصاد حالة فريدة؟-، في الواقع تركيا ليست حالة وحيدة هنا، فمن الصعب جدًا أن توجد دولة تتمتع بتناسق كامل بين قيمة عملتها وواقع اقتصادها، مهما كانت قوة هذا الاقتصاد، فإما أن تكون قيمة العملة بأعلى من قيمتها العادلة كما هو الحال في أمريكا، وإما أن تكون قيمة العملة أقل من القيمة العادلة كما ذكرنا حول تركيا.
وخلال السطور القادمة سنذكر نماذج مرت بظروف تشبه الحالة التركية، ورغم التراجع في قيمة العملة المحلية ظل الاقتصاد قويًا.
الصين.. العملة الضعيفة أسهل الطرق نحو النمو القوي
في عالم الاقتصاد لا يمكن قياس كل الأمور دائما على ظاهرها، والنموذج الصيني أبرز الأمثلة على ذلك فالدولة تعمل دائمًا على عدم صعود عملتها المحلية، وتقودها للهبوط دائمًا، لكن لماذا لا نتحدث هنا عن أن هذا الهبوط يعني انهيار ثاني أكبر اقتصاد في العالم؟، ببساطة لأن العملة الضعيفة هي كنز بالنسبة للدول التي تعتمد على الصادرات لذلك تتعمد الصين إضعاف عملتها كي تغزو منتجاتها العالم، وهو ما يحدث بالفعل.
بشكل سريع ومبسط سنذكر ماذا تفعل الصين لخفض قيمة عملتها لدعم صادراتها، تقوم بكين باستخدام فوائضها المالية الهائلة -الناتجة عن انتعاش صادراتها خلال السنوات الماضية-، في شراء السندات الأمريكية؛ وذلك بهدف المحافظة على معدل منخفض لسعر صرف عملتها، ويتم الأمر عن طريق قيام البنك المركزي الصيني بشراء معظم الدولارات التي تدخل بلاده، ثم يتم إعادتها إلى السوق الأمريكية مرة أخرى من خلال شراء السندات، وهو ما يحافظ بالتالي على قيمة العملة المحلية منخفضة مقابل الدولار.
لكن هل من الممكن أن تستفيد تركيا من ضعف عملتها كما تفعل الصين؟ بالطبع يمكن ذلك، بل هذا ما يحدث بالفعل، ففي الأشهر الأخيرة تواصل الليرة تسجيل مستويات قياسية منخفضة، وفي نفس الوقت تحطم الصادرات والسياحة الأرقام التاريخية، ولا يمكن الحديث عن الأمرين بشكل منفصل، فلا شك أن ارتفاع الصادرات -التي سجلت في يوليو (تموز) الماضي مثلاً مستوى قياسيًا، إذ بلغت نحو 14.1 مليار دولار، وذلك بنسبة نمو 11.8% على أساس سنوي- هو نتيجة مباشرة لهبوط الليرة.
نفس الأمر ينطبق على السياحة، فحجم القطاع زاد بنسبة 30% على أساس سنوي، ومن المتوقع أن تصل إيرادات تركيا من السياحة بنهاية العام إلى نحو 32 مليار دولار، مع دخول 40 مليون سائح، بحسب رئيس اتحاد وكالات السفريات التركي، فيروز باغلي كايا، وذلك في تطور واضح لهذا القطاع في ظل منافسة قوية بين كثير من دول العالم.
روسيا.. معاناة الروبل أضعفت الاقتصاد لكنه عاد سريعًا
خلال السنوات الماضية شهدت العملة الروسية العديد من التراجعات لأسباب كثيرة منها الاقتصادي ومنها السياسي، سواء بسبب العقوبات الأمريكية والأوروبية أو أزمة القرم أو حتى بسبب هبوط أسعار النفط، لكن رغم هذه التراجعات -التي دفعت العملة لتفقد أكثر من 50% من قيمتها خلال يوم واحد في 16 ديسمبر (كانون الأول) 2014-، تماسك الاقتصاد الروسي، بل باتت وكالة التصنيف التي طالما خرجت بتقارير سلبية عن روسيا تتحدث عن أن قوة الوضع المالي في البلاد.
ومؤخرًا تحدثت وكالة «موديز» للتصنيفات الائتمانية، عن أن روسيا لن تتأثر بالعقوبات الأمريكية، إذ إن قوة الوضع المالي العام والخارجي لروسيا ستحمي اقتصادها، بحسب «موديز»، وهنا نتحدث عن نظرة إيجابية لدولة من المتوقع أن تواجه جملة من العقوبات الاقتصادية الأمريكية، في تغير جذري في حديث المؤسسات المالية العالمية حول الاقتصاد الروسي مقارنة بالسنوات الماضية.
بالطبع لا ننكر أن هذه الظروف التي مرت بها روسيا قد صنعت لها أزمات اقتصادية من تضخم وعجز في الموازنة، ولكن لم يسقط الاقتصاد بسقوط قيمة العملة، وهو ما نريد أن نثبته، بمعنى أن العملة لا تعبر عن كل شيء في الغالب في حال امتلكت الدولة قطاعات اقتصادية متماسكة ومستمرة في الإنتاج، وهو ما ينطبق على تركيا وروسيا، طالما أن تراجع العملة ليس نابعًا في الأساس من تراجع أداء القطاعات الاقتصادية وعدم نموها يكون الوضع مختلفًا.
إيران.. العملة الأضعف عالميًا لكن الاقتصاد ما زال متماسكًا
بعيدًا عن أن الاقتصاد الإيراني يواجه الكثير من الصعوبات حاليًا، لكن لا يجب أن ننسى أن العملة الإيرانية على رأس العملات الأضعف في العالم، ومع ذلك نجد أن إيران هي ثاني أكبر اقتصاد في الشرق الأوسط، والاقتصاد الثامن عشر على مستوى العالم، وتحتل صدارة دول العالم من حيث احتياطي الغاز بحسب شركة «بي بي»، وهي صاحبة رابع أكبر احتياطات نفطية مؤكدة حول العالم، بحسب دراسة أعدها موقع «إنسايدر مانكي»، وهذه الحقائق لم تمحها فكرة انهيار العملة، التي تجاوزت مؤخرًا مستوى 100 ألف ريال إيراني للدولار.
وتسعى إيران للوصول إلى التعافي الاقتصادي بعيدًا عن الأحداث السياسية المتتابعة التي مرت بها البلاد منذ قيام الثورة الإسلامية، مرورًا بالحرب مع العراق، ووصولاً إلى العقوبات الاقتصادية الدولية نتيجة برنامجها النووي، كل هذه الأسباب نالت بشكل مباشر من العملة المحلية الإيرانية بالفعل، لكن ظلت إيران ذات ثقل اقتصادي كبير سواء في منطقة الشرق الأوسط أو عالميًا، ولو كانت الأمور تقاس بقيمة العملة المحلية فإن إيران ربما كان من المفترض أن تختفي منذ سنوات.
وبالعودة إلى الأسئلة التي ذكرناها في مقدمة التقرير، يمكننا القول إن انهيار عملة الدولة لا يعني بالضرورة انهيار اقتصادها، وقد أوضحنا كيف هي العلاقة بين قوة اقتصاد الدولة وعملتها، وأن سعر صرف العملة لا يكشف عن القوة الحقيقية لاقتصاد الدول.
احمد طلب
النهایة