شفقنا- ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
عباد الله أوصيكم وأوصي نفسي بوصية علي (ع) بما أوصى به شيعته عندما قال: “عليكم بالجد والاجتهاد، والتأهب والاستعداد، والتزود في منزل الزاد، ولا تغرنكم الحياة الدنيا كما غرت من كان قبلكم من الأمم الماضية والقرون الخالية الَّذِينَ احْتَلَبُوا دِرَّتَهَا وَ أَصَابُوا غِرَّتَهَا وَ أَفْنَوْا عِدَّتَهَا وَ أَخْلَقُوا جِدَّتَهَا وَ أَصْبَحَتْ مَسَاكِنُهُمْ أَجْدَاثاً وَ أَمْوَالُهُمْ مِيرَاثاً لَا يَعْرِفُونَ مَنْ أَتَاهُمْ وَ لَا يَحْفِلُونَ مَنْ بَكَاهُمْ وَ لَا يُجِيبُونَ مَنْ دَعَاهُمْ فَاحْذَرُوا الدُّنْيَا فَإِنَّهَا غَدَّارَةٌ غَرَّارَةٌ خَدُوعٌ مُعْطِيَةٌ مَنُوعٌ مُلْبِسَةٌ نَزُوعٌ لَا يَدُومُ رَخَاؤُهَا وَ لَا يَنْقَضِي عَنَاؤُهَا وَ لَا يَرْكُدُ بَلَاؤُهَا”.
أيها الأحبة هذه وصية علي لنا أن نرى الدنيا للعمل والجد والاجتهاد والتزود ليوم يقف فيه الناس أمام رب العالمين لتجزى كل نفس بما كسبت فلا نراها كما رآها من خدعوا فيها واغتروا بمفاتنها وشهواتها وغرائزها فكانت لهم هي الغاية والهدف وهي لن تبقى لهم ولن يبقوا لها ومتى وعينا ذلك فإننا سنكون أكثر وعياً ومسؤولية وقدرة على مواجهة التحديات.
والبداية من الكارثة التي حلّت باللبنانيين بفعل الانفجار الهائل الذي حدث في المرفأ وحصد عشرات الضحايا والمفقودين وآلاف الجرحى وخلف وراءه دماراً هائلاً في هذا المرفق الحيوي وفي المباني السكنية وفي المؤسسات العامة والخاصة والمحال التجارية والمستشفيات ودور العبادة وترك تداعياته على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والنفسي في هذا البلد.
إننا أمام هذا المشهد المروع والمؤلم الذي تعتصر لأجله قلوبنا حزنا وألماً نتقدم بأحر التعازي إلى أهالي الضحايا والدعاء بالرحمة لمن فقدوا حياتهم والشفاء العاجل للجرحى وندعو اللبنانيين الذين توحدوا بالمعاناة بكل طوائفهم ومذاهبهم ومواقفهم السياسيّة إلى التضامن والتكاتف والتعاون في هذه المرحلة.
ولا بد هنا أن نقدر عالياً المبادرات التي انطلقت من كل المناطق لمد يد العون والمساعدة لمن فقدوا بيوتهم وأرزاقهم وممتلكاتهم ورغم الظروف الصعبة التي يعانون منها والتي أظهرت عمق العلاقة بين اللبنانيين وأصالتهم، وندعو أن تتابع هذه المساعي مع الشكر لكل الدول التي قدمت وتقدم المساعدات إلى اللبنانيين وإن لم تبلغ حتى الآن مستوى حجم الكارثة التي تقدر بالمليارات.
وفي هذا المجال ندعو الحكومة لتكون على مستوى المسؤولية في العمل السريع لمعالجة آثار الكارثة والكشف عن مصير المفقودين والتعويض على من فقدوا بيوتهم وممتلكاتهم وسبل عيشهم.
وفي الوقت نفسه الإسراع بالتحقيق ليعرف المواطنون حقيقة ما جرى وبكل شفافية ومعاقبة من تسببوا به مهما كبرت انتماءاتهم الطائفية ومواقعهم السياسية حتى لا يبقى الغموض يلف هذه القضية والكل يعرف مدى تداعيات ذلك على الداخل والخارج أو أن تضيع هذه القضية بالتمييع واللعب على الوقت أو بتقاذف المسؤوليات أو أن تدفن في الدهاليز الطائفية والمذهبية حماية للمسؤولين الحقيقيين.
إن الحكومة أمام الامتحان لن تكون تداعياته سهلة إن هي تغاضت أو قصرت أو فشلت في محاسبة المجرمين، وإلا ستوفر مزيداً من الفرص والذرائع لكل المتربصين بهذا البلد لاعتبار أن هذه الدولة فاشلة بكل المقاييس وعاجزة عن توفير الأمن والاستقرار للبنانيين، ما يبرر الدعوة إلى وصاية دولية تسقط كل مقومات السيادة والاستقلال لهذا الوطن…
وهنا لا بد أن نقدر للقضاء الخطوات التي اتخذها والتي تحتاج إلى أن تستكمل وأن لا تقف عند حدود معينة مشددين على ضرورة إعطاء القضاء كل الاستقلالية في هذه القضية كما في كل القضايا، وهو الذي أثير ويثار حول بعضه الكثير من التشكيك بنزاهة احكامه وخضوعه للقوى السياسية، حتى تتوفر شروط القصاص العادل لكل الرؤوس الكبيرة والصغيرة المسؤولة، لعلنا نبلسم ولو بقدر كل هذه الجراح وآلالام والخسائر التي ولدتها هذه الكارثة، ونفتح باباً للإصلاح المنشود في كل مؤسسات الدولة ومكافحة الفساد…
وهنا كان من المعيب على كل القيادات المسؤولة في هذا البلد أن يأتي رئيس دولة ليؤنبهم على تفاقمه وعلى عدم قيامهم بمسؤولياتهم تجاه الناس الذين ائتمنوهم على مواقعهم.
إن هذه الفاجعة لم تدفع اللبنانيين لليأس بالرغم من كل الكوارث التي يعانون منها سواء على المستوى المعيشي والاقتصادي وإن أضافت إليهم معاناة جديدة عمقت معاناتهم السابقة والتي نريدها أن تعمق من مسؤوليتهم للعمل الجاد للخروج من كل هذا الواقع البائس الذي إن استمر فسيزيد من معاناتهم ومآسيهم.
إن الوفاء للشهداء والجرحى ولكل من أصابتهم هذه الفاجعة هو بتغيير هذا الواقع وبالعمل الحثيث والجاد لاستعادة منطق الدولة في كل مؤسساتها حتى لا تتكرر هذه المأساة بطرق أخرى مع التأكيد على أن التغيير لن يكون بأيدي الآخرين بل بأيدي الناس أنفسهم ممن يحولون آلامهم وجراحهم إلى حافز للانطلاق نحو مستقبل أفضل.
وأخيراً لا بدّ أن نعيد التذكير بضرورة أخذ أقصى درجات الحيطة والوقاية أمام ارتفاع أعداد الإصابات بفيروس كورونا، ولاسيما أمام المخاطر الجديدة التي ترتبت على هذه الكارثة بعد خروج العديد من المستشفيات عن الخدمة الفعلية إضافة إلى ما أصاب مستودعات الأدوية من تلف.
النهاية