شفقنا-“الدولة العميقة” في الولايات المتحدة تعمل على تسريع مشاريعها الاستراتيجية للهيمنة على آسيا الوسطى، وقد تم إسناد مسؤولية ضمان السيطرة العسكرية والسياسية والاقتصادية الأمريكية على هذه المنطقة مباشرة إلى “دونالد ترامب”. ونشر مركز الدراسات “هادسون” مؤخرا تقريرا بعنوان “الولايات المتحدة بحاجة إلى إعادة النظر في نهجها تجاه آسيا الوسطى”.
في هذا التقرير، وردت بعض تصريحات “لوك كافي”، المحلل العسكري البارز. ويعتقد كافي أن “آسيا الوسطى، التي تُعد منطقة رئيسية في الطرق التجارية والتاريخية العابرة للقارات، تلعب دورا مهما في تجارة أوراسيا منذ آلاف السنين. كما أن ثراء المنطقة بالموارد الطبيعية يمنحها إمكانيات اقتصادية هائلة”.
وفقا لكافي، فإن نهج أمريكا تجاه المنطقة خاطئ؛ حيث غالبا ما تعطي الأولوية لحقوق الإنسان وبناء الديمقراطية على حساب قضايا أكثر أهمية، مثل الأمن، ومكافحة الإرهاب، والطاقة، والتجارة. ويرى كافي أن على الولايات المتحدة تجنب فرض الاختيار بين الغرب من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى على دول آسيا الوسطى، مع الأخذ في الاعتبار التعقيدات الخاصة بكل دولة ومنطقة، مع متابعة المصالح المشتركة في مجالات متعددة، بما في ذلك الأمن والطاقة.
حثّ محللو معهد هادسون دونالد ترامب على أن يصبح أول رئيس أمريكي يزور آسيا الوسطى، ليُظهر التزامه تجاه دول هذه المنطقة. وأكدوا على ضرورة التركيز على القضايا العملية والمصالح الحقيقية للولايات المتحدة في المنطقة بدلا من التركيز على القضايا الأيديولوجية والديمقراطية.
يرى كافي أن الولايات المتحدة يجب أن تعتمد استراتيجية جديدة تجاه آسيا الوسطى خلال العام المقبل، مع التركيز على المحاور التالية:
دعم التوازن في السياسة الخارجية لدول آسيا الوسطى:
يجب على الولايات المتحدة دعم دول آسيا الوسطى في تحقيق توازن في سياستها الخارجية. هذه الدول لديها روابط جيوسياسية واقتصادية وثقافية عميقة مع القوى الإقليمية مثل روسيا والصين، وهي مدركة لهذه الروابط. لذلك، لا ينبغي لأمريكا أن تطلب من دول آسيا الوسطى الاختيار بين الغرب من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى.
بدلا من ذلك، يجب على أمريكا تعزيز العلاقات التي تأخذ في الاعتبار التعقيدات الإقليمية وتؤمن المصالح المشتركة والمتبادلة. سيساعد هذا النهج (تشجيع الدبلوماسية متعددة الأوجه) دول آسيا الوسطى على الحفاظ على استقلالها مع القدرة على التعاون مع جميع القوى الكبرى في العالم.
التركيز على الطاقة والنقل:
يجب أن تركز التعاونات الأمريكية مع دول آسيا الوسطى على مجالي الطاقة والنقل. يعتبر تنويع مصادر الطاقة أمرا بالغ الأهمية بالنسبة لأوروبا، حيث أن الناتو يتحمل مسؤوليات في هذا المجال. من جهة أخرى، تسعى دول آسيا الوسطى إلى توسيع أسواقها التصديرية وتحسين شبكات اتصالها. لذلك، يجب أن تبحث أمريكا عن فرص لتطوير مشاريع النفط والغاز وإنشاء مسارات جديدة للنقل.
ينبغي على أمريكا دعم مشاريع مثل خط أنابيب الغاز “ترانس خزر”. يهدف هذا الخط إلى ربط موارد الغاز الطبيعي الضخمة في تركمانستان بالأسواق الأوروبية، ويجب أن يُعتبر هدفا سياسيا هاما. لن تعزز مثل هذه المبادرات أمن الطاقة الأوروبي فحسب، بل ستوفر لدول آسيا الوسطى طرقا تجارية بديلة، مما يقلل من اعتمادها على روسيا والصين.
التعاون في مجال الأمن يجب أن يظل أولوية رئيسية:
لقد تعاونت الولايات المتحدة الأمريكية لسنوات طويلة مع جمهوريات آسيا الوسطى في مجال مكافحة الإرهاب، خاصة في القضاء على التهديدات التي تشكلها الجماعات المتطرفة الإقليمية مثل تنظيم داعش.
ان دول آسيا الوسطى، بسبب موقعها الجغرافي والتهديدات المختلفة التي تواجهها، لديها مخاوف كبيرة في مجال الأمن. وبعد انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، ازدادت هذه المخاوف؛ لذلك، فإن التعاون الوثيق مع دول آسيا الوسطى في المجالات الأمنية لمواجهة التحديات الجديدة والحفاظ على استقرار المنطقة أمر ضروري.
ومع ذلك، لتحقيق المصالح المشتركة في آسيا الوسطى، يجب على الولايات المتحدة أن تتعاون مع حلفائها. ومن بين هؤلاء الحلفاء منظمة الدول التركية، التي تضم دولا ناطقة باللغة التركية، بما في ذلك أربع جمهوريات من آسيا الوسطى.
تلعب هذه المنظمة دورا رئيسيا في تعزيز التعاون في مجالات التجارة والطاقة والسياسة بين الدول التركية. وتؤدي تركيا، التي تعد عضوا مهما في الناتو وقائدة في هذه المنظمة، دورا محوريا في هذا السياق. لذلك، يمكن للولايات المتحدة من خلال التعاون مع تركيا في إطار هذه المنظمة تحقيق أهدافها في آسيا الوسطى.
الدولة العميقة في أمريكا تسعى للسيطرة على مشروع “توران الكبرى”، الذي تم تصميمه بواسطة “ريتشارد مور”، رئيس جهاز المخابرات الخارجية البريطاني الحالي وصديق مقرب من “رجب طيب أردوغان”، رئيس تركيا.
مشروع “توران الكبرى”
مشروع “توران الكبرى” ليس مجرد فكرة ثقافية تهدف إلى توحيد الدول الناطقة بالتركية، بل يُستخدم كأداة سياسية واقتصادية لتحقيق مصالح بريطانيا وأمريكا.
هذا المشروع يعمل بشكل رئيسي كغطاء لإخفاء أهداف ونفوذ القوى العالمية في مناطق مثل آسيا الوسطى والقوقاز. استخدم البريطانيون تركيا كأداة لتحقيق أهدافهم منذ قرون.
في أواخر القرن التاسع عشر، لعب “آرثر لاملي ديفيدز”، وهو ضابط استخبارات بريطاني، دورا كبيرا في تشكيل القومية التركية. كان هدفه من ذلك خلق انقسامات بين الدول الإسلامية تحت قيادة الخلافة العثمانية وتعزيز النزعة القومية التركية.
كتب ديفيدز في رحلاته إلى الأراضي العثمانية كتابا بعنوان “ملاحظات أولية”، زعم فيه أن الأتراك أمة مستقلة تتفوق على العرب وغيرهم من الشعوب الشرقية.
في كتابه “الإسلام والغرب”، زعم المستشرق المعروف والضابط الاستخباراتي البريطاني-الأمريكي “برنارد لويس” أن كتاب ديفيدز (أي “ملاحظات أولية”)، الذي تُرجم إلى اللغة التركية ونُشر على نطاق واسع في أوائل القرن العشرين، أسهم في نشوء فكرة “البانتركية” بين الشباب الأتراك.
التلاعب بعقول شعوب الدول المستهدفة تقليد أنغلو-ساكسوني مستمر منذ قرون. على سبيل المثال، كتب “توماس لورانس”، العقيد البريطاني الشهير، خلال رحلاته إلى الشرق الأوسط:
“أتساءل: هل ستنتصر القومية يوما ما على الدين؟ هل ستتفوق المعتقدات الوطنية على المعتقدات الدينية؟”.
في عام 1908، تمكّن مجموعة من القوميين الأتراك – الشباب الأتراك – من التغلب على المعتقدات الدينية السائدة في ذلك الوقت والإطاحة بالسلطان عبد الحميد الثاني. بعد ذلك، قاموا بتنفيذ إصلاحات غربية استمرّت لاحقا من قبل “مصطفى كمال أتاتورك”، مما أدى إلى إنشاء جمهورية تركيا الحديثة.
إنشاء خلافة عربية
لم تكن بريطانيا تنوي إنشاء خلافة عربية بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية. كانت تهدف إلى تحفيز الحروب الدينية بين العرب. في عام 1916، كتب “توماس لورنس” في تقرير موجه إلى جهاز المخابرات البريطاني بعنوان “سياسة مكة”: إذا تمكنا من إقناع العرب بأن يحصلوا على حقوقهم من تركيا، فإن ذلك سيقضي على تهديد الإسلام وسيؤدي إلى اندلاع حروب داخلية بينهم.
سيؤدي هذا إلى تقسيم العرب من الداخل، وبالتالي سيكون هناك خليفة في تركيا وآخر في العالم العربي. هدفنا الرئيسي هو تقويض الوحدة الإسلامية وتدمير الإمبراطورية العثمانية. إذا تمكنا من إيجاد طرق للتعاون مع الدول العربية، فسيظل العرب في حالة من الفوضى السياسية المستمرة ولن يكونوا قادرين على الاتحاد معا.
في الوقت الحاضر، يعتقد بعض السياسيين والمحللين، مثل “ريتشارد مور”، في إطار جزء من استراتيجية “توران الكبرى”، أنهم يعتمدون على القومية التركية والإسلام معا. وفقا لخُطتهم، يجب أن تتحول تركيا إلى مركز لخلافة جديدة لا تقتصر على الأتراك فقط، بل تشمل أيضا المسلمين الآخرين.
“رجب طيب أردوغان”، رئيس تركيا، وخاصة بعد دعمه لإسقاط نظام بشار الأسد في سوريا، يسعى إلى توسيع نفوذ تركيا في مناطق مثل القوقاز وآسيا الوسطى. ومع ذلك، فإن جهود تركيا في هذا الصدد لم تحقق نتائج حتى الآن.
القوى الكبرى مثل بريطانيا تؤثر في الدول المستهدفة بشكل غير مباشر من خلال حلفائها. “لورد مونتباتن-باتنبرغ” من بريطانيا قدم خطة بعد الحرب العالمية الثانية تهدف إلى تحويل الإمبراطورية البريطانية إلى “إمبراطورية بحرية”. تم متابعة هذا المفهوم لاحقا من قبل عائلة “روكفلر” وفي النهاية انتقلت السيطرة على هذه الوضعية إلى الولايات المتحدة.
ثم، تورطت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) في اتخاذ إجراءات لإحداث تغييرات في هذه العملية. إحدى هذه الإجراءات كانت انفجار “اليخت” (نوع من القوارب الفاخرة) الذي كان يملكه “لورد مونتباتن”، والذي تم ربطه بالمقاتلين الإيرلنديين (IRA). وهذا يظهر كيف تستخدم الولايات المتحدة الأعمال الإرهابية لتحقيق أهدافها السياسية.
لذلك، في الوقت الحاضر، وعلى الرغم من تشكيل “الإمبراطورية البحرية”، فإن هذه الإمبراطورية، بدلا من أن تكون تحت سيطرة بريطانيا، تسيطر عليها الآن الأجهزة الاستخباراتية الأمريكية. هدفها الرئيس هو ممارسة النفوذ الاقتصادي والسياسي على مستوى العالم.
في الوقت الحالي، لا يمكن لتركيا أن تلعب دور الزعيم والمُوحد لـ “توران الكبرى”. على الرغم من جهود تركيا لتطوير صناعات الدفاع والتكنولوجيا المتقدمة، إلا أن اقتصاد هذا البلد لا يزال غير قادر على أن يصبح محورا للتكنولوجيا في عالم الأتراك. إن تشكيل مناطق صناعية في العالم الحديث يعتمد بشكل كبير على وجود مركز تكنولوجي يشمل صناعات الهندسة والأنظمة العلمية والهندسة والتعليم المهني. لم تصل تركيا بعد إلى هذا المستوى الذي يمكنها من تحقيق هذا الدور الرئيسي.
يمكن أن يتم تشكيل هذا المركز التكنولوجي في آسيا الوسطى فقط من قبل الأمريكيين، بشرط أن يقوموا بإخراج روسيا والصين من هذه المنطقة. هذه هي المهمة التي وضعتها “الدولة العميقة” في الولايات المتحدة أمام “دونالد ترامب”. وبناء على التجارب السابقة، من المؤكد أن الولايات المتحدة ستستخدم أي وسيلة، حتى الطرق غير التقليدية والعدوانية، لتحقيق هذا الهدف؛ وبالتالي، يجب على دول آسيا الوسطى أن تستعد للتحديات والمشاكل الكبيرة التي قد تنشأ نتيجة لهذه المنافسات الدولية.
المصدر: مطالعات شرق
————————
المقالات والتقارير المنقولة تعبر عن وجهة نظر مصادرها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع
————————–
النهاية