شفقنا-أثارت التصريحات الأخيرة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن ضرورة استعادة قاعدة بغرام الجوية ردود فعل كثيرة. فبغرام، هذا الحصن العسكري الذي كان يوما رمزا لعرض القوة الغربية في أفغانستان، أصبح اليوم محورا لقياس المعادلات الأمنية الجديدة في المنطقة.
تأتي طلبات واشنطن، المبررة بمنطق مراقبة المنافسين ومكافحة الإرهاب، مع مواجهة كبيرة من الحذر والتقارب المتأن من قبل دول المنطقة، وخصوصا جمهوريات آسيا الوسطى.
هذه الدول، دون أن تتخذ جميعها موقفا مباشرا وحاسما بالضرورة، تتفق ضمنيا على أن أي انتشار للبنية التحتية العسكرية الأجنبية في جوارها يمثل عاملا مزعزعا للتوازن الهش للسلام والاستقرار في المنطقة.
منتدى موسكو: تجسيد القلق المشترك
نقطة تجسيد هذا الحذر الإقليمي كانت البيان المشترك للاجتماع السابع لـ «منتدى التشاور بموسكو». فقد جمع هذا الاجتماع دول المنطقة مثل كازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان، وأصدر بيانا أوضح فيه: «جهود الدول لنشر بنيتها التحتية العسكرية في أفغانستان والدول المجاورة غير مقبولة، لأنها لا تخدم السلام والاستقرار الإقليمي».
هذا البند، دون ذكر الولايات المتحدة صراحة، استهدف بشكل مباشر فكرة العودة إلى بغرام.
تكمن أهمية هذا النهج في أن دول آسيا الوسطى، باللجوء إلى هذا الإطار الجماعي، تجنبت تكلفة سياسية لمعارضة ثنائية مع واشنطن.
وفقا لتيمورخان، الباحث في معهد الدراسات الاستراتيجية بإسلام آباد (ISSI)، يعكس هذا التقارب رسالة مفادها ان «الدول الإقليمية، رغم اختلافاتها، تتبنى موقفا مشتركا وهو ان أفغانستان يجب ألا تكون مضيفة لحضور عسكري أجنبي مرة أخرى».
تجمع هذه الدول حول قلق أمني مشترك يظهر مدى انشغالها بعودة قوة عابرة للحدود إلى بيئة أمنية تؤثر عليها مباشرة. هذا الموقف، أكثر من كونه معارضة نشطة، يمثل تحذيرا وقائيا ومحاولة لدرء الأزمة عن حدودها.
تفكيك ارغام آسيا الوسطى: أسباب تتجاوز الدبلوماسية
المعارضة الضمنية والحذرة لجمهوريات آسيا الوسطى تجاه عودة أمريكا إلى بغرام تنبع من مجموعة من الحسابات الأمنية المعقدة، والجروح التاريخية القديمة، والواقعية الجيوسياسية، كما يلي:
- الخوف من الوقوع في خط النار: فخ تنافس القوى الكبرى
يعتبر ترامب السبب الرئيسي لاستعادة قاعدة بغرام قربها من الصين. أكبر كابوس لدول آسيا الوسطى هو أن تتحول إلى ساحة شطرنج للتنافس المتزايد بين الولايات المتحدة وروسيا والصين.
- الأولوية للمعمار الأمني الإقليمي
في السنوات الأخيرة، ركزت هذه الدول استثماراتها السياسية والأمنية على أطر إقليمية مثل «منظمة شنغهاي للتعاون» و«منظمة معاهدة الأمن الجماعي (CSTO)». ورغم قصور هذه المنظمات، فقد وفرت بيئة مألوفة وقابلة للتوقع لتنسيقات الأمن الإقليمي.
من وجهة نظر هذه الدول، يمكن أن تؤدي عودة أمريكا إلى زعزعة هذا النظام الإقليمي الوليد وإضعاف الآليات التي تعتبرها ضرورية للاستقرار النسبي الحالي. تفضل هذه الدول ضمان الاستقرار عبر التعاون الإقليمي والتكامل الاقتصادي، وليس العودة إلى حقبة التدخل الغربي التي لم تترك سوى الفوضى وعدم الاستقرار.
- شبح قاعدة قرشي-خان آباد: درس لا يُنسى
لفهم عمق الشك الاستراتيجي لآسيا الوسطى تجاه الوجود العسكري الأمريكي، يجب العودة إلى الذاكرة التاريخية لهذه الدول.
فمثلا، تجربة قاعدة قرشي-خان آباد الجوية في أوزبكستان، التي كانت تحت إدارة القوات الأمريكية بين 2001 و2005، تشكل نقطة محورية. فقد بدأت هذه الشراكة على أساس مصالح مشتركة في مكافحة الإرهاب، وبلغت ذروتها مع توقيع إعلان الشراكة الاستراتيجية عام 2002، لكنها سرعان ما تحولت إلى خصومة بعد أحداث عنف أنديجان في مايو 2005.
وقد أظهرت الضغوط السياسية من واشنطن على الحكومة الأوزبكية، تليها إخراج القوات الأمريكية من القاعدة، أن الوجود العسكري الأمريكي قد يصبح أداة للتدخل في الشؤون الداخلية وزعزعة الاستقرار السياسي.
تجربة مثل هذه أصبحت جزءا من العقائد الدفاعية للمنطقة، إذ نصت أوزبكستان في «مفهوم السياسة الخارجية» و«العقيدة العسكرية» صراحة على «عدم جواز إقامة قواعد ومرافق عسكرية أجنبية على أراضيها». هذا المبدأ، الذي شدد عليه وزير الخارجية الأسبق عبد العزيز كاملوف عام 2021، يشكل حاجزا قانونيا وانعكاسا لإرادة المنطقة للحفاظ على استقلالها الاستراتيجي.
- مفارقة مكافحة الإرهاب: وقود لتطرف أكبر
في حين أن أحد أسباب واشنطن للعودة إلى بغرام هو مكافحة جماعات مثل داعش خراسان، ترى دول المنطقة أن المعادلة عكسية. إذ إن وجود القوات الأجنبية مجددا في أفغانستان سيكون أفضل أداة دعائية للجماعات الإرهابية، التي يمكنها جذب عناصر من المتطرفين والنشطاء الغاضبين عبر المنطقة، ما يزيد من خطر عدم الاستقرار.
دول آسيا الوسطى، التي تمتلك حدودا طويلة ومعرضة للخطر، لا ترغب في تحمل هذا النوع من المخاطر الكبيرة.
- الرؤية الجيو-اقتصادية مقابل الواقع الجيوسياسي
للمعارضة لعودة الوجود العسكري الأمريكي بعد مهمّة اقتصادية مهمة. إذ أن دول آسيا الوسطى تعرّف مستقبلها ليس من خلال العسكرة، بل من خلال أن تصبح محور اتصال وترانزيت في قلب أوراسيا.
مشاريع مثل ممر النقل عبر أفغانستان، الهادف إلى ربط آسيا الوسطى بموانئ المياه الدافئة الجنوبية، تعد حيوية لهذه الدول، وهي تتطلب بيئة آمنة ومستقرة وخالية من التوترات الجيوسياسية.
الوجود العسكري الأمريكي المتجدد في بغرام يهدد هذا الرؤية الاقتصادية بشكل مباشر، إذ يمكن أن يعرض البنية التحتية، وخصوصا المشاريع التي تستثمر فيها القوى المنافسة لأمريكا مثل مبادرة «الحزام والطريق» الصينية، للخطر ويعيد أفغانستان إلى مركز عدم الاستقرار والتنافس الإقليمي.
المصدر: مطالعات شرق
————————
المقالات والتقارير المنقولة تعبر عن وجهة نظر مصادرها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع
————————–

