شفقنا-من خلال دراسة العالم اليوم، يتضح أن مؤشرات الحرب الباردة من منظور القوة لم تعد ذات أهمية كبيرة في نظر المجتمع الدولي، بل إن العامل الذي حول العالم من ثنائية قطبية إلى نظام عالمي جديد، وجعل القوى الصاعدة فاعلة، هو الاقتصاد، الذي أصبح مع العولمة محور التحليل والتفسير بشكل متزايد.
هل يمكن لنظريات العلاقات الدولية تفسير النظام العالمي الجديد؟
يمكن التعرف على النظام العالمي الجديد من خلال عدة مؤشرات أساسية، أهمها تعدد الأقطاب. على عكس فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حين كان للولايات المتحدة دور المهيمن، أصبحت القوة العالمية اليوم موزعة بين عدة دول وتكتلات اقتصادية وعسكرية.
صعود الصين، وزيادة دور الاتحاد الأوروبي، وظهور قوى إقليمية مثل الهند، إلى جانب الدور المتنامي للمنظمات الدولية والمؤسسات المالية، يظهر أن القرارات العالمية لم تعد أحادية الجانب، وأن توازن القوى بين الفاعلين أصبح مؤشرا مهما للنظام الجديد.
المؤشر الثاني هو زيادة أهمية التعاون متعدد الأطراف والمؤسسات الدولية. فالقضايا العابرة للحدود مثل التغير المناخي، والأمراض، والإرهاب، والاقتصاد العالمي تظهر أنه لا يمكن حل المشكلات العالمية دون تعاون دولي، لذا فإن المنظمات العالمية والاتفاقيات الدولية والمؤسسات القانونية والاقتصادية تلعب دورا محوريا في تشكيل النظام الجديد، ويعد نفوذها وكفاءتها من المؤشرات الأساسية لقياس النظام العالمي.
أما المؤشر الثالث فهو تأكيد على الأبعاد غير الصلبة للقوة والتكنولوجيا. في النظام الجديد، لا تقوم القوة فقط على القدرة العسكرية، بل على النفوذ الاقتصادي والقوة الناعمة، والتكنولوجيا الحديثة، والسيطرة على تدفق المعلومات. الدول والفاعلون الدوليون الذين يمكنهم إدارة المعلومات، والشبكات التكنولوجية، والاقتصاد الرقمي، يمتلكون دورا حاسما في النظام العالمي. بالتالي، المرونة، القدرة على الابتكار، وإدارة القضايا العالمية المعقدة هي مؤشرات أخرى ترسم صورة النظام العالمي الجديد.
العلاقة بين النظريات والنظام الجديد
تقدم نظريات العلاقات الدولية أدوات تحليلية مهمة لفهم النظام العالمي، لكنها محدودة بفرضيات كل نظرية.
الواقعية تركز على التنافس على القوة والأمن، وتستطيع تفسير التوترات بين القوى الكبرى وتحليل هيكل القوة في النظام العالمي الجديد، لكنها غالبا تتجاهل دور المؤسسات والقواعد والتعاون الدولي، ما يجعلها غير مكتملة في تفسير أبعاد النظام متعدد الأطراف والمعقد.
الليبرالية والنظريات المؤسسية تركز على التعاون الدولي والمنظمات الدولية ودور القوانين والمعايير، وتستطيع تفسير تغييرات النظام العالمي مثل زيادة أهمية المؤسسات متعددة الأطراف والاتفاقيات التجارية والقضايا البيئية، لكنها قد تفشل في التنبؤ بالأزمات والصراعات العسكرية بين القوى.
النظريات النقدية والبنائية تساعد في فهم الأبعاد الثقافية والهوياتية والاجتماعية للنظام العالمي الجديد، إذ توضح أن النظام ليس مجرد قوة ومؤسسات، بل ناتج عن الهياكل المعنوية والمعايير والتصورات السائدة.
بناء عليه، لا تستطيع أي نظرية بمفردها تفسير النظام العالمي الجديد بشكل كامل، لكن دمج وجهات النظر المختلفة يوفر صورة أشمل للتطورات والاتجاهات العالمية.
الولايات المتحدة والنظام العالمي الجديد
كانت الولايات المتحدة القوة المهيمنة بعد الحرب العالمية الثانية، ولعبت دورا أساسيا في صياغة وإدارة النظام العالمي، الذي كان قائما على القيم الغربية، والتعاون متعدد الأطراف، والريادة العسكرية والاقتصادية.
إن قبول نظام عالمي جديد، حيث تتوزع القوة بين عدة دول وتكتلات، ويصبح النفوذ الأمريكي محدودا، يتعارض مع مصالح الولايات المتحدة التقليدية ومكانتها التاريخية. ومع ذلك، تظهر التطورات الاقتصادية والجيوسياسية أن النظام أحادي القطب لم يعد قادرا على ضمان الأمن والنفوذ الأمريكي.
صعود الصين والقوى الإقليمية، والأزمات العالمية مثل التغير المناخي والجوائح، والضرورة العملية للتعاون متعدد الأطراف، تضغط على الولايات المتحدة لقبول نظام متعدد الأقطاب نسبيا. عمليا، قد تضطر أمريكا إلى التفاعل والتعاون مع القوى الأخرى والمؤسسات الدولية، حتى لو لم ترغب بتقليل نفوذها بشكل كامل.
التحديات الداخلية لقبول النظام الجديد
تواجه الولايات المتحدة تحديا داخليا في قبول النظام الجديد: التيارات القومية والمحافظة تعتبر تقليص النفوذ العالمي تهديدا للمصالح الوطنية، وتضغط نحو سياسات أحادية وتفضيل مصالح الداخل.
التيارات الليبرالية والدولية تعتبر التعاون والمشاركة في المؤسسات العالمية أمرا ضروريا. لذلك، قدرة الولايات المتحدة على تقبل النظام الجديد تعتمد على موازنة مصالحها الداخلية مع التزاماتها الدولية.
القبول التدريجي والتكيفي للنظام الجديد
من المرجح أن تتبنى الولايات المتحدة نهجا تدريجيا، يقبل النظام العالمي الجديد جزئيًا، مع الحفاظ على أدوات القوة العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية لضمان استمرار نفوذها الاستراتيجي.
هذا يعني: قبول تعددية الأقطاب نسبيا والمشاركة في المؤسسات الدولية والمرونة في المسائل الاقتصادية والتكنولوجية والحفاظ على القوة كأداة ضغط واستراتيجية لضمان النفوذ.
آخر الكلام
قبول النظام العالمي الجديد بالكامل يمثل تحديا للولايات المتحدة، ويستلزم التوفيق بين المصالح التاريخية، والقدرة ذات الهيمنة، والمتطلبات العالمية. من المرجح أن يكون القبول تدريجيا وانتقائيا، بحيث تحافظ واشنطن على دورها في وضع القواعد العالمية، مع التكيف مع الواقع متعدد الأقطاب وتعقيدات النظام العالمي.
المصدر: صحيفة اعتماد
————————
المقالات والتقارير المنقولة تعبر عن وجهة نظر مصادرها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع
————————–

